بقلم: رضوان الغزاوي – باحث في ماستر السياسة الدولية والدبلوماسية والرقمنة
عندما كنا صغار، كنا نردد عبارة "الصحراء المغربية" تلقائيا، كما لو كانت جزءا من النشيد الوطني أو من واجب صباحي يرسخ الانتماء. كنا نسمعها على أمواج الإذاعة الوطنية، ونرددها في المدارس، دون أن ندرك موقع هذه الصحراء بالضبط. كنا نظنها في الشرق أو ربما في الغرب، أو لعلها في الشمال حيث البحر، كنا نردد دون أن نسأل، ونردد لأننا آمنا بوطن لا نعرف كل تضاريسه بعد. ومع مرور الزمن، اتضح أن هذه الصحراء تقع في العمق الجنوبي للمملكة، ممتدة في صمتها وجغرافيتها وتاريخها.لكن ما إن تنكشف الجغرافيا حتى يثور سؤال التاريخ:
ألم تكن حدود المغرب يوما من الأندلس إلى نهر السنغال؟
أليست جزر الكناري والجعفرية شاهدا على امتداد مغربي في الأطلسي؟
ألم تكن وهران يوما مدينة مغربية تقرع فيها طبول المخزن؟
إذا كنا اليوم نناضل من أجل جزء هو أصلاً لنا، يشهد له التاريخ والبيعة والجغرافيا…فكيف سيكون شكل المعركة لو ادعينا ما ليس لنا ؟ كيف سنقنع العالم أننا نملك أرضا في القطب الجنوبي، أو بئر غاز في القطب الشمالي؟ كيف سنقنعهم أننا نملك جزءا في المريخ ؟ من هنا تبدأ إشكالية هذا المقال، في استحضار العلاقة بين الحق المشروع والسيادة التاريخية، وبين الذاكرة الوطنية والخطاب الجغرافي، وفي مساءلة الذات قبل العالم: كيف ندافع عن حق هو لنا، وسط عالم لم يعد يعترف إلا بمنطق القوة والشرعية المتكاملة؟
لكن دعوني أقول لكم، إن الأمور لا تقاس بعين واحدة. فالعالم ليس فقط خرائط وحدود، بل أيضا منظومات من السلطة والعقل والضمير. إذ لا يمكن لأمة تتحدث لغة واحدة، وتدين بدين واحد، وتعيش فوق جغرافية واحدة، أن تنعم بالاستقرار والنمو، ما دامت أوصالها مخترقة من الداخل، وما دامت شياطين السياسة تتجسد في هيئة جنرالات يحكمون باسم السلاح لا الشرعية. فكل وطنٍ تهيمن عليه العسكرية، وتدار مؤسساته بأوامر الثكنات لا صوت الشعوب، مصيره الانحدار نحو الظلام، وتفشي الفساد، واغتيال الأمل. أنظروا إلى التجربة المصرية، حيث قمعت الديمقراطية في مهدها، وحكمت البلاد لا باسم الشعب، بل باسم "الأمن القومي" الذي تحول إلى سيف مسلط على رقاب الجميع. وأنظروا إلى الجزائر، حيث الجنرالات صنعوا دولة بلا بوصلة، وكرسوا مواردها في تصدير الأزمات بدل حلها، بل جعلوا من قضايا الجوار شماعة لصرف النظر عن التردي الداخلي.
اليوم، وبعد مسار دبلوماسي طويل خاضته المملكة المغربية بقيادة الملك محمد السادس، يمكن القول إن ملف الصحراء المغربية، الذي شكل لعقود عنوانا لنضال وطني وسيادي، بات على مشارف الانفراج. فقد اتخذت الأمم المتحدة مؤخرا خطوات غير مسبوقة، تمثلت في سحب ملف الصحراء المغربية من اللجنة الرابعة للأمم المتحدة، وإلغاء ما يسمى بـ "حق تقرير المصير"، مما يعكس تحولا جوهريا في المقاربة الأممية نحو الطرح المغربي. وفي السياق ذاته، من المرتقب أن تنتهي مهام بعثة "المينورسو" مع نهاية صيف هذا العام، في حين جاء تقرير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، منسجما مع الرؤية المغربية، معتبرا الحكم الذاتي خيارا جديا وواقعيا لتسوية النزاع.
لكن، هل يعني ذلك أن الملف قد طُوي نهائيا ؟ حتى وإن صادق مجلس الأمن في أكتوبر القادم على قرار يُكرّس مغربية الصحراء، فهل يكون بذلك قد انتهى الصراع ؟ الجواب الواقعي: لا. ذلك أن العائق الأكبر لا يكمن في قرارات الأمم المتحدة فحسب، بل في من يُغذي النزاع من خلف الستار. نحن لا نواجه فقط خصوما سياسيين، بل نظاما عسكريا تكنوقراطيا، جعل من زعزعة الاستقرار عقيدة، ومن تمويل التنظيمات الانفصالية أداة للابتزاز الجيوسياسي. بل يمكن القول دون مبالغة، إننا نواجه خصما يفوق في خطورته حتى الاحتلال الصهيوني، لأنه يمارس سياسة القتل البطيء والفرقة الداخلية، دون أن يظهر للعلن كعدو مباشر.
ومن هنا، تزايدت الدعوات الدولية لتصنيف جبهة البوليساريو كتنظيم إرهابي، خاصة بعد تقديم الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة لملتمس رسمي إلى الكونغرس بهذا الخصوص، وهو ما دعمه رئيس المنتدى الكناري، الذي وصف البوليساريو بأنها منظمة تزعزع الأمن الإقليمي وتتقاطع في أهدافها مع تنظيمات متطرفة كـ"القاعدة" و"داعش". لكن رغم كل هذا فالجزائر غيرت نوعا ما من طريقتها في التعامل مع الملف فهي باتت تتقرب من شخصيات بارزة في الكونغرس الأمريكي ومن شركات النفط والغاز الامريكية في رسالة واضحة الى ان الجزائر لن ترضى ابدا بطي هدا الملف ما دام انه يعرقل التنمية في المغرب ويبعد المغرب عن المطالبة بالصحراء الشرقية . حتى إن الإعلام الرسمي الجزائري يعترف بأن الدولة الجزائرية مولت جبهة البوليساريو التي قامت بقصف مدينة السمارة المغربية خلال هده الأيام . نحن أمام عدو لا ينام، تحرّكه نية واضحة في إغراق المنطقة المغاربية في الفوضى، وتفتيت حلم الوحدة الذي استيقظ عليه الملك الحسن الثاني منذ عقود.
قد يتساءل البعض: هل تستطيع الجزائر أن تتحدى قرارات مجلس الأمن؟ الجواب ببساطة: لا، فالجزائر لا تملك القوة السياسية لمواجهة المجلس الأممي، لكنها تمتلك ما هو أخطر... ثرواتها الغازية والنفطية، وهي التي تتكفل بمواجهة أعضاء مجلس الأمن نيابة عنها. هذه الثروات هي ما قد يطيل أمد هذا النزاع لمئة عام أو مئتين، لأنها تغذي شبكة المصالح الدولية، وتحول القضايا العادلة إلى رهائن في يد القوى الكبرى. فنحن نعيش في عالم لم يعُد يبنى على قرارات مجلس الأمن، ولا على مخرجات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا حتى على توصيات الكيانات الإقليمية كالاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الإفريقي. بل أصبحنا أمام واقع تُصاغ فيه القرارات بمنطق:
"ماذا تملك من ثروات ومصالح... لأشاركك الجريمة وأتغاضى عن الحقيقة؟"
سننتظر شهر أكتوبر كما ننتظر شهر رمضان المعظم، نترقبه بكل جوارحنا، مترقبين ما ستحمله قرارات مجلس الأمن بشأن قضيتنا الوطنية. فهل سيُجدد بعثة "المينورسو" ويُجدد معها الحلم الجزائري في عرقلة التنمية بالأقاليم الجنوبية للمملكة؟ أم أن المجلس سيتخذ هذه المرة قرارًا تاريخيًا يُقر بالشرعية التاريخية والجغرافية لمغربية الصحراء؟
كنا نقول قديما: اللهم بلغنا رمضان........أما اليوم فنقول: اللهم بل
بلغنا أكتوبر.