tody24 tody24
recent

Latest News

recent
random
جاري التحميل ...

دبلوماسية رجل....

 

 


بقلم رضوان الغزاوي باحث في السياسة الدولية والدبلوماسية والرقمنة

 

المغرب ليس بلدا عاديا على خريطة الجغرافيا أو في دفاتر التاريخ. إنه دولة تتقاطع فيها القارات والثقافات والحضارات، دولة شكلتها الجبال والبحار، كما شكلتها الحروب والصلح، والأديان والسياسة، والعلم والزوايا. فرجل السياسة في المغرب ليس صنيعة اللحظة أو وليد الصدفة، بل هو نتاج مسار طويل من التراكمات التاريخية، والرهانات الجغرافية، والخصوصيات الثقافية والدينية. عبر التاريخ، كان المغرب مسرحا لحضارات عظمى، تركت كل منها بصماتها في تشكيل وعي الإنسان المغربي، وبالتالي في بناء شخصية رجل السياسة.

فالمؤسسة الملكية كانت ولا تزال هي صانعة الاستمرارية وصمام الأمان، وهي المدرسة السياسية الأولى في المغرب. فالملك، أمير المؤمنين، يجسد وحدة الأمة وقيادتها، ويصنع توازنًا بين الحداثة والتقاليد، بين الداخل والخارج. فرجال السياسة المغاربة، على اختلاف مواقعهم، يتعلمون من مدرسة القصر الملكي كيف يدار البلد بتأ ٍّ'ن، وكيف تُصاغ القرارات بحكمة. رجل السياسة المغربي هو ابن قرون من التوازن بين العصا والرمح، بين السيف

والقرآن، بين الأرض والسماء. هو صنيعة دولة فريدة، لم تكن يوما تابعة، بل كانت دائما فاعلا مركزيا في محيطها، ومحاورا ذكيا في محيطها الإقليمي والدولي.

منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية سنة 1999، شهدت السياسة الخارجية المغربية تحولا نوعيا عميقا، انتقل من مفاهيم الدبلوماسية التقليدية إلى نهج أكثر شمولية ومرونة يستجيب لمتغيرات السياق الدولي ومتطلبات التنمية الوطنية. هذا التحول لم يكن قطيعة مع الإرث الدبلوماسي العريق الذي تركه الملك الراحل الحسن الثاني، وإنما تطوير له ضمن رؤية حديثة ترتكز على استباق التحديات واستثمار الفرص. لا يمكن فهم السياسة الخارجية في عهد الملك محمد السادس دون استحضار التراث الدبلوماسي الغني الذي أسس له سلفه، الحسن الثاني، والذي وصفه الملك الشاب بأنه "آية في فن الدبلوماسية،

ضليع في أسرارها، ملم بأصولها، ومحيط بشواردها." ومع ذلك، فإن السياسة الجديدة التي اعتمدها الملك محمد السادس لم تكن مجرد إعادة إنتاج لهذا التراث، بل مث'لت قطيعة إيجابية

معه من حيث الوسائل والفاعلين والأولويات، دون أن تنفصل عنه من حيث الثوابت الوطنية والمبادئ المؤسسة.

فمثلا يوم 28 أبريل 2000 و 'جه الملك الشاب رسالة إلى المشاركين في الندوة المنظمة في الرباط بمناسبة الاحتفال بالدبلوماسية المغربية، أي بعد تسعة أشهر فقط من اعتلائه العرش، حيث يكشف هذا الخطاب بجلاء عن فلسفة الملك محمد السادس في إعادة تشكيل مفهوم الدبلوماسية المغربية. ويشير الملك محمد السادس إلى الحسن الثاني بصفته رمزًا وركيزة أساسية في بناء المغرب الحديث، مؤكدًا على استمرارية المشروع الملكي من الأب إلى الابن، ويظهر ذلك في قوله: "نتخذ منه قدوة ومنارا في كل ما نخوض غماره من شؤون النهضة ببلدنا والعمل على إسعاد مواطنينا." هذا تصريح سياسي رمزي يعزز مشروعية


حكمه وارتباطها بالإرث الحسن الثاني. أسهمت الرؤية الملكية في تعزيز الرأسمال الدبلوماسي والاستراتيجي للمملكة المغربية، من خلال ما يتمتع به جلالة الملك محمد السادس من بصيرة جيوسياسية متقدمة، ووعي دقيق بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، وإدراك عميق لتعقيدات المشهد العالمي. وقد م 'كن هذا التوجه من تحقيق مكاسب ملموسة لصالح مكانة المغرب الإقليمية والدولية، وترسيخ مصالحه العليا بشكل مستدام ومبني على الثبات والاستباقية.

في خطاباته المتعددة، عرض جلالة الملك فلسفته الدبلوماسية الحديثة، حيث اعتبر أن "الدبلوماسية التقليدية بمفهومها الكلاسيكي المتمثل في جهاز وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية باتت تواجه تحديات كبيرة"، بسبب بروز فاعلين جدد ومواضيع معقدة تفرض إعادة صياغة المفهوم والممارسة. حيث تتمثل هذه الفلسفة في اعتماد دبلوماسية متعددة الأبعاد تشمل، إلى جانب القنوات الرسمية، فاعلين من البرلمان، والجماعات المحلية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمثقفين، بل وحتى الرياضيين والمبدعين، في انسجام تام مع ما تفرضه العولمة وتداخل المحلي بالخارجي.

لكن هناك حدث بارز كان عبارة عن اختبار دبلوماسي حقيقي للملك محمد السادس، وهو أزمة جزيرة ليلى، في يوليوز 2002، بعد أقل من ثلاث سنوات على توليه العرش. فقد كانت مناسبة أبان فيها الملك الشاب عن قدرة عالية على التعامل مع التوترات الإقليمية المعقدة، في سياق دولي وإقليمي حساس. وقد بدأت الأزمة حين أقدمت القوات المغربية على النزول إلى جزيرة ليلى، القريبة من الساحل المغربي، بغرض تعزيز المراقبة الأمنية ضد الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات، انطلاقًا من موقعها الاستراتيجي في مضيق جبل طارق. غير أن إسبانيا اعتبرت الخطوة "انتهاكًا" لسيادتها المفترضة، ما دفعها إلى التصعيد العسكري من خلال إطلاق عملية "روميو سيرا"، حيث تدخلت قواتها الخاصة مدعومة بغواصات ومروحيات، وتمكنت من السيطرة على الجزيرة واختطاف الجنود المغاربة، قبل أن تعيدهم لاحقًا إلى السلطات المغربية. هذا الحدث، رغم مدته القصيرة التي لم تتجاوز تسعة أيام، شكل منعرجًا مهمًا في رسم ملامح السياسة الخارجية للمملكة، فقد اتخذ الملك محمد السادس من هذه الأزمة بوابة لإعادة توجيه بوصلة الدبلوماسية المغربية، بتوسيع الهوامش الجيوسياسية نحو العمق العربي والإفريقي، والانفتاح على شركاء جدد شرقًا، في خطوة تعكس إدراكًا عميقًا لمكانة المغرب الجيوستراتيجية وتاريخه العريق، وقدرته على التحرك بحكمة في محيط إقليمي ودولي متقلب.

وفي السياق نفسه، برز تح ٍّ'د أكبر تمثل في ملف الصحراء المغربية، الذي ش 'كل عبئًا سياسيًا واستراتيجيا وماليا منذ السبعينات، وورثه الملك محمد السادس معقدا ومتشعبا. غير أن الفطنة والحنكة الدبلوماسية الملكية سرعان ما تجل'ت في سنة 2007، حين اقترح المغرب

مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي نهائي لهذا النزاع المفتعل، الذي استنزف طاقات البلاد وأعاق مسارات التنمية في المنطقة المغاربية. ففي 11 أبريل 2007، ق 'دمت المملكة رسميا مبادرتها إلى مجلس الأمن الدولي، استجابة لدعوته إلى إيجاد تسوية سياسية واقعية ودائمة، تقطع مع منطق الاستفتاء وتطرح بديلا عمليا يقوم على منح الأقاليم الجنوبية صلاحيات


واسعة لتدبير شؤونها، في إطار السيادة المغربية والوحدة الترابية للمملكة. وقد نالت هذه المبادرة إشادة متزايدة من قِبل قوى دولية مؤثرة، اعتبرتها جادة وذات مصداقية، وأساسا موضوعيا للتفاوض.

لك 'ن الاختبارات والتحديات لم تتوقف عند أزمة جزيرة ليلى أو ملف الصحراء، بل تواصلت بأشكال جديدة، لا تقل خطورة وتعقيدًا، وفي مقدمتها حراك سنة 2011، الذي شهده المغرب بالتوازي مع موجة "الربيع العربي" التي اجتاحت عدداً من الدول العربية وأسقطت أنظمتها السياسية. وقد خرجت شرائح واسعة من المجتمع المغربي إلى الشارع، مطالبة بإصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية، وسط مناخ إقليمي متوتر وهيمنة خطابات احتجاجية غير مألوفة. غير أن الملك محمد السادس فاجأ الجميع، بإطلالة وُصفت بالتاريخية، عبر خطاب رسمي موجه إلى الشعب المغربي في 9 مارس 2011، أعلن فيه عن إصلاحات دستورية عميقة، وشروعه في مراجعة شاملة للدستور ترتكز على توسيع صلاحيات رئيس الوزراء، وتعزيز استقلالية القضاء، وترسيخ حقوق الإنسان، وتكريس فصل السلط. وقد لاقى الخطاب تجاوبا واسعا، وامت  'ص جزءا كبيرا من التوتر الشعبي، حيث اعتُبر تحولًا نوعيًا في مسار الإصلاح السياسي بالمغرب، ومثالًا على الاستباقية الملكية في التعامل مع التحولات الكبرى، دون اللجوء إلى القمع أو العنف، كما وقع في عدد من الدول.

يمكن اعتبار سنة 2011 بداية الإصلاح الديمقراطي للمؤسسات الوطنية وبناء دولة الحق والقانون، لكن في يوليوز 2016، اتخذ المغرب قرارا استراتيجيا بالغ الأهمية بالعودة إلى الاتحاد الإفريقي بعد غياب دام أكثر من ثلاثة عقود. هذا القرار لم يكن مجرد إجراء تقني أو تحول ظرفي، بل جسد تحولًا عميقًا في الرؤية الملكية لتموقع المغرب داخل قارته. فقد اختار الملك محمد السادس أن يُعلن هذه العودة من خلال خطاب تاريخي موجه إلى القادة الأفارقة، أكد فيه على الارتباط الوجداني والتاريخي للمغرب بإفريقيا، مبرزًا أن "المغرب لم يغادر إفريقيا قط، بل فقط إطارًا مؤسساتيًا قاريًا".

شكلت العودة إلى الاتحاد الإفريقي لحظة مفصلية في مسار السياسة الخارجية المغربية، حيث لم تكن مجرد "عودة إلى المقعد الشاغر"، بل كانت إعلانًا عن تح 'ول في العقيدة الدبلوماسية نحو مزيد من الانخراط الجيوستراتيجي في القارة، والانفتاح على الشراكات جنوب-جنوب، وجعل إفريقيا ركيزة أساسية في السياسة الخارجية للمملكة، وهو ما تجسد لاحقًا من خلال زيارات ملكية متكررة لدول إفريقية وتوقيع مئات الاتفاقيات الثنائية، ما جعل المغرب أكبر مستثمر إفريقي في غرب إفريقيا، وثاني مستثمر في القارة عمومًا.

 

مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم

 

مقولة شهيرة قالها وزير الخارجية المغربي ناصر بورطة خلال الازمة المغربية الاسبانية فإذا كانت أزمة جزيرة ليلى شهدت استعراضا لـ"عضلات" إسبانيا العسكرية على المغرب


بالأمس، فإن اليوم يختلف الوضع كثيرا، فالفوارق العسكرية بين البلدين تقلصت بشكل كبير، حيث أظهرت تقارير دولية مختصة، منها موقع "غلوبال فاير باور"، عن تفوق المغرب في القوات البرية على إسبانيا، مقابل تفوق طفيف لإسبانيا في القوات الجوية والبحرية.1 فالمغرب اليوم يُعتبر منافسا اقتصاديا لا يُستهان به لإسبانيا، فهو المنافس الأول لها في الصادرات الفلاحية إلى أوروبا، والمنافس الأول في التجارة البحرية بعد إنشاءه لميناء طنجة المتوسط، والمنافس الأكبر في جلب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاع السيارات، وهو منافس هام في الاستثمار في القارة الإفريقية.

كما أن المغرب أصبح أكثر حضورا على المستوى الدولي مما كان عليه سابقا، فعلاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أكثر متانة مما هي العلاقات الإسبانية الأمريكية، وقد زاد من تقوية حلفه مع الولايات المتحدة في المجال العسكري، عبر مناورات الأسد الإفريقي . الخناق الاقتصادي الدي فرضه المغرب على اسبانيا وفرنسا خلال السنوات الماضية توج بإقرار فرنسي-اسباني بمغربية الصحراء هدا التحول الاستراتيجي الدي نهجه الملك محمد السادس بحنكة ورزانة هادئة دبلوماسية صامت حركت اقتصاد قارة بأكملها .

السياسة الخارجية المغربية خلال 25 سنة الماضية لم تكن مجرد تحركات دبلوماسية ظرفية، بل كانت تعبيرًا عن رؤية ملكية استراتيجية تبتغي تمكين المغرب من موقع ريادي بين الأمم. رؤية ترتكز على قوة الداخل، وواقعية الانفتاح، وصرامة الدفاع عن الثوابت الوطنية، دون التفريط في التوازنات الدولية. إنها دبلوماسية التموقع الذكي في عالم متغير، تقودها إرادة ملكية واضحة المعالم.


 

عن الكاتب

tody24

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

tody24