رضوان الغزاوي - باحث في السياسة الدولية والدبلوماسية
عند قراءة العنوان، قد يظن البعض أننا بصدد الحديث عن أحد العلماء الإيرانيين البارزين ضمن برنامج طهران النووي أو الصاروخي، غير أن الحقيقة تحمل بعدا آخر، أكثر غموضًا وتشويقا. كارل لي، أو كما يعرف أيضا باسم "لي فانغوي"، ليس عالما إيرانيا، بل رجل أعمال صيني وُصف من قبل وزارة الخزانة الأمريكية كأحد أخطر تجار الأسلحة في العالم.
الرجل، الذي يتحرك في الظل تحت أسماء مستعارة متعددة، يُتهم بتزويد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمكونات صواريخ باليستية متقدمة، وبحسب تصريح لمسؤول بارز في الإدارة الأميركية لمجلة نيوزويك، فإن كارل لي "قد زود إيران بمجموعة كاملة من المواد اللازمة لبناء الصواريخ الباليستية، بدءًا من أنظمة التوجيه والتحكم عالية الدقة، وصولا إلى المواد الخام الضرورية لإنتاج وقود الصواريخ". الخطورة لا تكمن فقط في نوعية الدعم الذي قدمه، بل في استمرارية نشاطه رغم الملاحقة الدولية. فطيلة أكثر من 12 عامًا، حاولت ثلاث إدارات أمريكية متتالية كبح جماح "الرجل الشبح"، بدءًا من إدارة جورج بوش الابن، مرورًا بباراك أوباما، وصولًا إلى دونالد ترامب. وكل إدارة فرضت عليه عقوبات بشكل متزايد دون أن تنجح في توقيف نشاطه بالكامل.
لكن خلفيات القصة تزداد عمقًا عندما نعود إلى اللحظة التي كانت فيها إيران تبحث عن صواريخ يتجاوز مداها 1000 كيلومتر. حينها توجه الإيرانيون إلى كوريا الشمالية، التي عرضت عليهم صواريخ باليستية قصيرة المدى لا تتجاوز 1000 كلم، وهو ما رفضته طهران، لأن هدفها الاستراتيجي كان واضحا الوصول إلى العمق الإسرائيلي.
وفي هذه المرحلة الدقيقة، ظهر اسم كارل لي. الرجل الذي فتح أمام الإيرانيين بابًا جديدًا لتطوير صواريخ بعيدة المدى، من خلال تزويدهم بالمواد الأساسية والتكنولوجيا اللازمة لذلك. وبفضل هذه المساعدات، نجحت إيران في تطوير ترسانة صاروخية قادرة على بلوغ العمق الإسرائيلي، وهو ما تأكد خلال الحرب الأخيرة، حيث سقطت صواريخ إيرانية مباشرة داخل الكيان الإسرائيلية.
اقتنع جهاز الموساد الإسرائيلي بمدى خطورة كارل لي، وأقنع نظيره الأميركي بضرورة تتبعه ووقف نشاطه. وعلى مدى سنوات، لاحقت الاستخبارات الأميركية هذا الرجل في كل أنحاء العالم، لكنها فشلت في الوصول إليه، بل لم تتمكن حتى من تحديد ملامحه أو صورته بدقة، ما جعله يُلقب بـ"الرجل الشبح".
أمام هذا الفشل الاستخباراتي، تصاعدت القضية إلى مستويات دبلوماسية عليا، حيث مارست الولايات المتحدة ضغوطا قوية على الحكومة الصينية، مطالبةً بكبح نشاطه، لكن بكين رفضت التعاون، متمسكة بموقفها السيادي. وفي سنة 2008، تدخلت وزارة الخارجية الأميركية بشكل مباشر، وأرسلت معلومات سرية من داخل بكين إلى السلطات الصينية، في محاولة لإقناعها بالتدخل. كما دخلت على الخط أجهزة استخبارات من ألمانيا وبريطانيا وإسرائيل، لمحاصرة أنشطة كارل لي ووقف شبكته الواسعة. لكن المفاجأة أن كلما أغلق الأميركيون وحلفاؤهم إحدى شركاته، كان يفتتح عدة شركات وهمية جديدة في دول أخرى، بطرق شديدة التعقيد.
الأكثر إثارة أن كارل لي كان يستخدم مصارف غربية مرموقة لتحويل الأموال، من بينها بنك مانهاتن الأميركي وبنك فرانكفورت الألماني، حيث تمكن من تقديم بيانات مضللة خدع بها حتى مكتب نيويورك لمكافحة الجرائم المالية. وفي تطور لافت، أعلن المدعي العام لمقاطعة مانهاتن، روبرت مورغينثو، عن توجيه 118 تهمة جنائية ضد كارل لي، بتهم تتعلق بتبييض الأموال، وخرق العقوبات، والإتجار غير المشروع بالتكنولوجيا العسكرية.
اليوم، بلغ كارل لي سن الثالثة والخمسين، وما يزال لغزا حيًّا يُحير أجهزة الاستخبارات في العالم. فرغم كل الموارد والتقنيات التي سخّرتها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإسرائيل، لم تتمكن أي جهة حتى الآن من تحديد مكان وجوده، أو الكشف عن هويته الكاملة. لا صور مؤكدة، ولا أثر ملموس، فقط أثر مالي وتجاري وإلكتروني يُثبت أنه لا يزال نشطًا… من خلف ستار.
ويبقى السؤال الجوهري :
هل تنفذ الصين سياستها الخارجية الخفية عبر رجال من طينة كارل لي؟