بقلم--رضوان الغزاوي باحث في ماستر السياسة الدولية والدبلوماسية
يعد القانون الدولي الإنساني أحد القوانين التي نشأت مع تطور المجتمعات البشرية، وقد مر من محطات كبيرًا ليصبح اليوم منظومة قانونية قائمة على مبادئ وبنود واضحة تهدف إلى حماية الإنسان في أوقات النزاعات المسلحة، حيث تم تخصيص لجان وهيئات دولية تُشرف على احترام هذا القانون وتطبيقه، كما تم ربطه بعدد من القوانين الدولية الأخرى، وفي مقدمتها القانون الدولي لحقوق الإنسان.
وقد عرفته الأمم المتحدة بأنه مجموعة من القواعد
التي تهدف إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة من خلال حماية الأشخاص الذين لا
يشاركون بشكل مباشر أو فعّال في الأعمال العدائية، وفرض قيود على وسائل وأساليب
الحرب. ويُعرف القانون الدولي الإنساني أيضًا بـ"قانون الحرب" أو
"قانون النزاعات المسلحة"، ويُعدّ فرعًا من فروع القانون الدولي العام،
ويستند إلى مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأساسية، أبرزها اتفاقيات
جنيف، بالإضافة إلى المبادئ العامة المعترف بها في القانون الدولي، كما ورد في
المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
ومن المهم التمييز بين القانون الدولي الإنساني والقانون
الدولي العام، فالأول ينظم سلوك أطراف النزاع في حال وقوع الحرب، في حين أن
القانون الدولي العام يعنى بتحديد مشروعية اللجوء إلى القوة المسلحة ضد دولة أخرى،
وهو ما يحضره ميثاق الأمم المتحدة إلا في حالات استثنائية، من بينها الدفاع الشرعي
عن النفس أو تدخل مجلس الأمن في حال تهديد السلم أو وقوع عدوان. أما فيما يتعلق
بتوقيت تطبيق القانون الدولي الإنساني، فإنه يطبق فقط في أوقات النزاعات المسلحة،
سواء كانت دولية أو غير دولية، ولا يُطبق في أوقات السلم حتى وإن تم التصديق على
معاهداته أو نشره بين أفراد المجتمع، فهو قانون خاص بحالات الحرب ولا يسري خارج
نطاق النزاع المسلح. ويبدأ تطبيقه بمجرد نشوب نزاع مسلح أو وقوع احتلال فعلي على
الأرض، دون النظر إلى الجهة التي بدأت الحرب أو أسبابها أو مشروعيتها، وهو ما
يميّزه عن قانون اللجوء إلى الحرب.
كما أن هذا القانون يُطبَّق على جميع أطراف النزاع دون تمييز، ويلزمهم باحترام قواعده، سواء كانوا دولاً أو جماعات مسلحة، بصرف النظر عن موقفهم من شرعية النزاع. ومن هنا يُطرح السؤال حول موقع هذا القانون من الحرب والاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وللإجابة عن هذا الإشكال لا بد من الإشارة أولًا إلى الجهات التي تسهر على تطبيقه، حيث تنص المادة الأولى المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع على أن الدول الأعضاء ملتزمة باحترام هذا القانون وتنفيذه في جميع الأحوال، إضافة إلى الدور الذي تلعبه المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية في تفعيل آليات المحاسبة.
وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تعد من بين الدول الأعضاء في اتفاقيات جنيف، ورغم ذلك فقد وجهت لها اتهامات متكررة بانتهاك بنود هذه الاتفاقيات من قبل منظمات حقوقية عالمية، إلى جانب الإدانات الواسعة من الدول الأعضاء، ما يطرح التساؤل حول كيفية خرق إسرائيل لهذه الاتفاقيات. ومن بين أبرز هذه الخروقات استهداف المدنيين، إذ يفرض القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، ويمنع بشكل صارم استهدافهم أو تعريضهم لأضرار غير مبررة، ويلزم جميع الأطراف المتحاربة بالتمييز الدائم بين المدنيين والمقاتلين وتجنب الهجمات العشوائية أو غير المتناسبة.
ومع ذلك، فقد وُجهت إلى إسرائيل اتهامات متكررة بخرق هذه
المبادئ، خصوصًا خلال حروبها المتكررة على قطاع غزة في أعوام 2008 و2012 و2014
و2018 و2021 و2023، حيث وثّقت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة
العفو الدولية استخدام إسرائيل للقوة المفرطة وقصفها لمناطق سكنية ومرافق
مدنية كالمستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، مما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من
الضحايا المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وقد وصفت هذه المنظمات بعض هذه الانتهاكات
بأنها قد ترقى إلى "جرائم حرب"، داعية إلى فتح تحقيقات دولية مستقلة
ومساءلة المسؤولين عنها، كما عبّرت جهات أممية عن قلقها البالغ إزاء ما وصفته
بـ"الاستخدام المفرط وغير المتناسب للقوة" في بيئة مكتظة بالسكان، وهو
ما يتعارض مع مبدأي التناسب والضرورة العسكرية المنصوص عليهما في القانون الدولي
الإنساني.[1]
وتعتبر حرب غزة سنة 2008 نموذجًا صارخًا لهذه الانتهاكات، حيث شنت إسرائيل في 27 ديسمبر 2008 عملية عسكرية واسعة النطاق تحت اسم "الرصاص المصبوب" استمرت حتى 18 يناير 2009، وخلفت دمارًا واسعًا في البنية التحتية ونكبة إنسانية غير مسبوقة، وقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين خلال هذه الحرب حوالي 1400 شهيد، غالبيتهم من المدنيين، من بينهم أكثر من 300 طفل وأكثر من 100 امرأة، إلى جانب عشرات من كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، في حين قُتل 13 إسرائيليًا فقط، بينهم 10 جنود و3 مدنيين جراء إطلاق صواريخ من غزة. وقد وُجهت خلال هذه الحرب اتهامات خطيرة لإسرائيل بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، منها استخدام الفوسفور الأبيض في مناطق مأهولة، واستهداف مدارس وملاجئ تابعة لوكالة الأونروا، إلى جانب قصف مساجد ومراكز طبية، مما فاقم من حجم الكارثة الإنسانية.[2]
وقد خلص تقرير بعثة "غولدستون" التابعة لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إلى أن بعض هذه الأفعال قد ترقى إلى جرائم حرب، ودعا إلى فتح تحقيقات دولية ومساءلة المسؤولين عنها. ومع ذلك، لم تُتخذ إجراءات حاسمة بحق الجناة، ما شجّع على تكرار نفس النمط من الاعتداءات في السنوات اللاحقة، لا سيما في حروب 2012 و2014 و2021 و2023، حيث تحولت غزة إلى ساحة لتجريب الأسلحة الحديثة وفرض الحصار والتجويع، في ظل غياب العدالة الدولية وعجز المجتمع الدولي عن فرض المحاسبة، وهو ما يطرح مجددًا سؤال ما جدوى القانون الدولي الإنساني إن لم تقترن قواعده بآليات فعالة وملزمة تُنهي الإفلات من العقاب وتضمن الحماية الحقيقية للمدنيين.[3]
وقد بلغت هذه الانتهاكات ذروتها خلال العدوان الإسرائيلي
على غزة الذي بدأ في السابع من أكتوبر 2023، حيث سجلت المؤسسات الحقوقية
والإنسانية واحدة من أكبر الكوارث البشرية في تاريخ الصراع، إذ تجاوز عدد الشهداء
حتى مطلع سنة 2025 أكثر من 45 ألفًا، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال
والنساء. وقد وصفت العديد من التقارير الدولية ما حدث في غزة خلال هذه الفترة بأنه
قد يُصنف ضمن جرائم الإبادة الجماعية، نظرًا لحجم الدمار الممنهج، واستهداف البنى
التحتية الحيوية، وفرض الحصار الكامل، ومنع دخول الغذاء والدواء، في ظروف ترقى إلى
سياسات الإبادة الجماعية وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع ومعاقبة
جريمة الإبادة الجماعية. وقد أعلنت محكمة العدل الدولية في لاهاي في يناير 2024 أن
القضية المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بشأن ارتكابها أفعالًا يمكن أن تدخل
في نطاق الإبادة الجماعية مقبولة من حيث الشكل والمضمون، في تطور قضائي غير مسبوق
أعاد الاعتبار لضحايا العدوان، وفتح الباب أمام محاسبة محتملة. إن ما جرى في غزة
لا يشكّل فقط انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي الإنساني، بل تحديًا صارخًا لفكرة
العدالة الدولية، ويطرح أسئلة عميقة حول جدوى القوانين الدولية ما لم تقترن بإرادة
حقيقية لتطبيقها وإنصاف الضحايا، ووقف الإفلات المزمن من العقاب.[4]
لماذا
لم يتم تفعيل الحكم الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية في حق بنيامين نتنياهو
ووزير دفاعه يوآف غالانت؟
هناك خمس أسباب لا سادس لهما :
1. غياب آلية تنفيذ قوية للمحكمة الجنائية الدولية
2.
الحماية السياسية الغربية لإسرائيل
3. إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما الأساسي
4. شلل مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي
5. ازدواجية المعايير في العدالة الدولية
لكل هذه الأسباب فإن عدم تفعيل مذكرة التوقيف الصادرة
بحق نتنياهو ووزير دفاعه ليس مسألة قانونية فحسب، بل هو نتيجة مباشرة لهيمنة
السياسة على القانون الدولي. ويؤكد أن العدالة الدولية، رغم تقدمها النظري، لا
تزال تخضع لموازين القوى، حيث يحاسب الضعفاء بينما يحمى الأقوياء. ما لم يتم إصلاح
جوهري في بنية النظام الدولي، وإرساء استقلال حقيقي للقضاء الدولي، فستبقى المحكمة
الجنائية الدولية عاجزة أمام جرائم ترتكب على مرأى العالم، كما هو الحال في غزة.
[1] Human Rights Watch. (2009). Rain of Fire: Israel’s Unlawful Use of White
Phosphorus in Gaza. Retrieved from: https://www.hrw.org/report/2009/03/25/rain-fire/israels-unlawful-use-white-phosphorus-gaza
[1] Amnesty International. (2014). Families under the Rubble: Israeli
Attacks on Inhabited Homes in the Gaza Strip. Retrieved from: https://www.amnesty.org/en/documents/MDE15/029/2014/en/
[1] تقرير بعثة غولدستون (مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة)
Report of the United Nations
Fact-Finding Mission on the Gaza Conflict (A/HRC/12/48). Retrieved from: https://www.ohchr.org/en/hr-bodies/hrc/special-mandate-holders/fact-finding-mission-gaza
[1]
محكمة العدل الدولية – قضية جنوب
إفريقيا ضد إسرائيل (2024
[1] Human Rights Watch. (2009). Rain of Fire: Israel’s Unlawful Use of White
Phosphorus in Gaza. Retrieved from:
https://www.hrw.org/report/2009/03/25/rain-fire/israels-unlawful-use-white-phosphorus-gaza
[2] Amnesty International. (2014). Families under the Rubble: Israeli
Attacks on Inhabited Homes in the Gaza Strip. Retrieved from:
https://www.amnesty.org/en/documents/MDE15/029/2014/en/
[3] تقرير بعثة غولدستون (مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة)
Report of the United Nations
Fact-Finding Mission on the Gaza Conflict (A/HRC/12/48). Retrieved from:
https://www.ohchr.org/en/hr-bodies/hrc/special-mandate-holders/fact-finding-mission-gaza
[4] محكمة العدل الدولية – قضية جنوب
إفريقيا ضد إسرائيل (2024